مواعيد العالم العربي الضائعة مع التفكيكية
صفحة 1 من اصل 1
مواعيد العالم العربي الضائعة مع التفكيكية
بقلم الحواس تقية
عن جريدة "العرب" (قطر)، 16 مارس 2009
بين التفكيكية والعالم العربي سوء فهم، مع أن كل شيء يدعوهما إلى تفاديه منذ البداية، فحين نعود إلى بداية تشكلها نجد أن صاحبها الأشهر جاك دريدا فتح عينه على الوضع الاستعماري بالجزائر، وظلت هذه الصدمة تمثل له مفارقة على عدة مستويات، كيف يمكن لبلد أن يستعبد الآخرين بدعوى تحريرهم؟ وكيف يمكن للحضارة الغربية أن تحمل هذه التناقضات التي تفجرت في الوضع الاستعماري؟ وكيف يمكن للخطاب الغربي أن يعيد الاتساق إلى نفسه ليبدو معقولا ومتماسكا بعد كل هذه المفارقات؟.
تلكم هي الأسئلة الأولى التي استفاق عليها ذهن دريدا، وظلت بعد ذلك تشغله حتى تشكلت في استراتيجية التفكيك التي تطارد المفارقات, حيثما كانت لتكشف عن التماثل الزائف والتماسك المصطنع، ولأول وهلة نرى أنها تشكلت في هامش الحضارة المهيمنة، بالجزائر المستعمرة، وببلد عربي، وكانت ردا على الخطاب الاستعماري المهيمن، وهي كلها ميزات تجعلها سلاحا بيد العالم العربي، ووصف سلاح مقصود، لأن صاحبها دريدا يرفض وصفها بالنظرية ويصر على أنها استراتيجية لملاحقة المفارقات التي يخنقها الخطاب المهيمن، إلا أنها رغم قربها من حاجات وتطلعات العالم العربي نجدها لا تزال حبيسة بعض الدوائر المختصة أو بعض الاستعمالات للتباهي المبتذل.
ومن الأمور الأخرى المحيرة في علاقة التفكيكية بالعالم العربي أن دريدا حين يتحدث عن الأسباب التي جعلت أميركا تحتفل به وبها, بينما بلده فرنسا لا يلقاه في البداية إلا بالنفور والإهمال، قال إن أميركا كانت في ذلك الحين تعاني من اصطدام تراثها الديني بمحنة الحداثة، فأضاع عقلها اتساقه وأضاع خطابها الديني المهيمن معناه، فكانت التفكيكية الأداة المناسبة لكشف المفارقات داخله حتى تستخرج المقولات الدينية الأخرى التي فرض عليها الصمت لمدة طويلة، أي أن التفكيكية ولدت بالمعنى الإعلامي, بل والأكاديمي في حضن التأويل الديني بأميركا، فلماذا لم يتلقف العالم العربي التفكيكية مع أنه كان يعاني هو أيضا من محنة اصطدام تراثه الديني بالحداثة، ولا يزال إلى اليوم مصابا بالذهول والحيرة، ممزقا بين تراثه وعصره، وهي محنة أحسن العروي تصويرها في كتابه عن العقل العربي، ولهذا يمكن القول إن العالم العربي ضيع ولا يزال موعدا هاما من مواعيد التلاقي مع التفكيكية.
هذا عن أهمية التفكيكية في علاقتنا بماضينا، ولها أهمية أخرى في وضعنا الحالي، لأنها استراتيجية تعيد الاعتبار للهامش على حساب المركز، بل تجعل من المركز هامشا كباقي الهوامش، والعالم العربي يعيش حاليا وضعا هامشيا داخل الخطاب الغربي المسيطر، وسيجد في التفكيكية الاستراتيجية التي يحتاجها كي يزعزع هذا الخطاب ويكشف تناقضاته ويهز تماسكه وينزع عنه المعقولية والشرعية التي يؤسس عليها استراتيجياته وسياساته الاستعمارية الجديدة.
ثم إن العالم العربي يواجه موجات من التحول الداخلي ستظل تفقده توازنه لسنوات طويلة عديدة، وتدور إحدى معاركها حول الاعتراف بالمختلف أو بالاختلاف، وسيجد في التفكيكية الاستراتيجية التي تبين أن المتشابه يتضمن بداخله المختلف، بل إن الإنسان يكون إنسانا لأنه مبدع دائم للمختلف، وأنه لا يوجد تعارض مطلق بين المتشابه والمختلف، وليس هذا التعارض المزعوم بينهما إلا زيفا يمكن للتفكيكية بسهولة أن تفضحه، وكم عانت المجتمعات العربية ولا تزال تعاني من سلطة التشابه في كل شيء، في التماهي بالزعيم والتشبه به، والتشبه بنفس المذهب الديني، والتشبه بنفس العرق، وكم حروب اندلعت لأن السلطة المهيمنة رفضت الاعتراف بالحق في الاختلاف.
وللتفكيكية علاقة حيوية بمستقبل العالم العربي، فهي كما عرفها صاحبها جاك دريد تتلخص في أنها تتعامل مع المستحيل، مع ما لا نتوقع حدوثه، وغير المتوقع هو الذي يحدث باستمرار، ويذكر مثلا لذلك تعرض أميركا لهجمات 11 سبتمبر، ونصيب العالم العربي من هذا المستحيل أكثر من أن يحصى، وإذا لم يتسلح بالتفكيكية من بين أدوات أخرى كي يتعلم كيف يروضه فإنه لن يستفيق من صدمة إلا على أخرى، وبين كل صدمتين تضيع مواعيد ومصائر.
عن جريدة "العرب" (قطر)، 16 مارس 2009
بين التفكيكية والعالم العربي سوء فهم، مع أن كل شيء يدعوهما إلى تفاديه منذ البداية، فحين نعود إلى بداية تشكلها نجد أن صاحبها الأشهر جاك دريدا فتح عينه على الوضع الاستعماري بالجزائر، وظلت هذه الصدمة تمثل له مفارقة على عدة مستويات، كيف يمكن لبلد أن يستعبد الآخرين بدعوى تحريرهم؟ وكيف يمكن للحضارة الغربية أن تحمل هذه التناقضات التي تفجرت في الوضع الاستعماري؟ وكيف يمكن للخطاب الغربي أن يعيد الاتساق إلى نفسه ليبدو معقولا ومتماسكا بعد كل هذه المفارقات؟.
تلكم هي الأسئلة الأولى التي استفاق عليها ذهن دريدا، وظلت بعد ذلك تشغله حتى تشكلت في استراتيجية التفكيك التي تطارد المفارقات, حيثما كانت لتكشف عن التماثل الزائف والتماسك المصطنع، ولأول وهلة نرى أنها تشكلت في هامش الحضارة المهيمنة، بالجزائر المستعمرة، وببلد عربي، وكانت ردا على الخطاب الاستعماري المهيمن، وهي كلها ميزات تجعلها سلاحا بيد العالم العربي، ووصف سلاح مقصود، لأن صاحبها دريدا يرفض وصفها بالنظرية ويصر على أنها استراتيجية لملاحقة المفارقات التي يخنقها الخطاب المهيمن، إلا أنها رغم قربها من حاجات وتطلعات العالم العربي نجدها لا تزال حبيسة بعض الدوائر المختصة أو بعض الاستعمالات للتباهي المبتذل.
ومن الأمور الأخرى المحيرة في علاقة التفكيكية بالعالم العربي أن دريدا حين يتحدث عن الأسباب التي جعلت أميركا تحتفل به وبها, بينما بلده فرنسا لا يلقاه في البداية إلا بالنفور والإهمال، قال إن أميركا كانت في ذلك الحين تعاني من اصطدام تراثها الديني بمحنة الحداثة، فأضاع عقلها اتساقه وأضاع خطابها الديني المهيمن معناه، فكانت التفكيكية الأداة المناسبة لكشف المفارقات داخله حتى تستخرج المقولات الدينية الأخرى التي فرض عليها الصمت لمدة طويلة، أي أن التفكيكية ولدت بالمعنى الإعلامي, بل والأكاديمي في حضن التأويل الديني بأميركا، فلماذا لم يتلقف العالم العربي التفكيكية مع أنه كان يعاني هو أيضا من محنة اصطدام تراثه الديني بالحداثة، ولا يزال إلى اليوم مصابا بالذهول والحيرة، ممزقا بين تراثه وعصره، وهي محنة أحسن العروي تصويرها في كتابه عن العقل العربي، ولهذا يمكن القول إن العالم العربي ضيع ولا يزال موعدا هاما من مواعيد التلاقي مع التفكيكية.
هذا عن أهمية التفكيكية في علاقتنا بماضينا، ولها أهمية أخرى في وضعنا الحالي، لأنها استراتيجية تعيد الاعتبار للهامش على حساب المركز، بل تجعل من المركز هامشا كباقي الهوامش، والعالم العربي يعيش حاليا وضعا هامشيا داخل الخطاب الغربي المسيطر، وسيجد في التفكيكية الاستراتيجية التي يحتاجها كي يزعزع هذا الخطاب ويكشف تناقضاته ويهز تماسكه وينزع عنه المعقولية والشرعية التي يؤسس عليها استراتيجياته وسياساته الاستعمارية الجديدة.
ثم إن العالم العربي يواجه موجات من التحول الداخلي ستظل تفقده توازنه لسنوات طويلة عديدة، وتدور إحدى معاركها حول الاعتراف بالمختلف أو بالاختلاف، وسيجد في التفكيكية الاستراتيجية التي تبين أن المتشابه يتضمن بداخله المختلف، بل إن الإنسان يكون إنسانا لأنه مبدع دائم للمختلف، وأنه لا يوجد تعارض مطلق بين المتشابه والمختلف، وليس هذا التعارض المزعوم بينهما إلا زيفا يمكن للتفكيكية بسهولة أن تفضحه، وكم عانت المجتمعات العربية ولا تزال تعاني من سلطة التشابه في كل شيء، في التماهي بالزعيم والتشبه به، والتشبه بنفس المذهب الديني، والتشبه بنفس العرق، وكم حروب اندلعت لأن السلطة المهيمنة رفضت الاعتراف بالحق في الاختلاف.
وللتفكيكية علاقة حيوية بمستقبل العالم العربي، فهي كما عرفها صاحبها جاك دريد تتلخص في أنها تتعامل مع المستحيل، مع ما لا نتوقع حدوثه، وغير المتوقع هو الذي يحدث باستمرار، ويذكر مثلا لذلك تعرض أميركا لهجمات 11 سبتمبر، ونصيب العالم العربي من هذا المستحيل أكثر من أن يحصى، وإذا لم يتسلح بالتفكيكية من بين أدوات أخرى كي يتعلم كيف يروضه فإنه لن يستفيق من صدمة إلا على أخرى، وبين كل صدمتين تضيع مواعيد ومصائر.
مواضيع مماثلة
» الحرب على التفكيكية، بقلم يوسف ضمرة
» علي حرب يفكك "ما بعد التفكيكية" بقلم عبد الحميد الغرباوي
» الحرب على التفكيكية! يوسف ضمرة منشور بصحيفة "الحياة" اللندنية 2 نوفمبر 20
» رواج التفكيكية في التجربة النقدية المعاصرة "عرض ونقد" د.بشير تاوريريت- باحث من الجزائر
» علي حرب وبؤس التفكيك العربي إلي ماذا يؤول نقد النقد؟ مجدي ممدوح
» علي حرب يفكك "ما بعد التفكيكية" بقلم عبد الحميد الغرباوي
» الحرب على التفكيكية! يوسف ضمرة منشور بصحيفة "الحياة" اللندنية 2 نوفمبر 20
» رواج التفكيكية في التجربة النقدية المعاصرة "عرض ونقد" د.بشير تاوريريت- باحث من الجزائر
» علي حرب وبؤس التفكيك العربي إلي ماذا يؤول نقد النقد؟ مجدي ممدوح
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى