المنتدى العربي للتفكيك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أحادية لغة الآخر: ترجمة عمر مهيبل

اذهب الى الأسفل

أحادية لغة الآخر: ترجمة عمر مهيبل Empty أحادية لغة الآخر: ترجمة عمر مهيبل

مُساهمة  محمد شوقي الزين الإثنين أبريل 26, 2010 10:31 am

أحادية لغة الآخر: ترجمة عمر مهيبل 158633

جاك دريدا، أحادية لغة الآخر، ترجمة د. عمر مهيبل، الجزائر-بيروت، منشورات الإختلاف والدار العربية للعلوم، 2007.
قراءة : عابد إسماعيل
عن جريدة "السفير" (لبنان).


تنهض فلسفة التفكيك التي أطلقها المفكر الفرنسي جاك دريدا على مبدأ تقويض ميتافيزيقيا الحضور في الثقافة الغربية، وخلخلة مفهوم اللوغوس أو المعنى المتطابق مع نفسه في النصوص الأدبية والفلسفية، عبر تأكيده أن لا شيء يقع خارج النص، وأنّ اللغة مجازية في جوهرها، لا يمكنها أن تقوم على محاكاة ساذجة للواقع، فهي تخضع دائماً لانزياحات بنيوية خفية، تفرز قيم التعدّد والتشتّت والكثرة، تجعلها تضمر ما لا تقول، وتخفي ما لا تعلن. فالنص يخون نفسه باستمرار، باحثاً عن معنى لا يستقرّ أو يهدأ، ولا يجد ضالّته في مركز ثابت أو كينونة راسخة. وبسبب ذلك، تصير الكتابة تدويناً للأثر أو رجعا الصّدى، وربما النطق بأكثر من لغة، كما يشير دريدا في تعريفه للتفكيك. من هنا نفيه فكرة أحادية المعنى، القائمة على تصور ميتافيزيقي مسبق لما يسمّى الحقيقة أو الجوهر. فثمة حضور دائم للغياب في النص، تصقله تلك الفجوات السوداء (lacunae)، الخفية والماكرة، التي قد تقول الشيء ونقيضه (aporia)، وترمي المعنى في مهبّ الحيرة، ليصير نهباً لرقصة الدوال ونقصانها المزمن. وبحسب هذه النظرة، يتبعثر المعنى ويتشتّت، تاركاً وراءه حنيناً دائماً للحضور، من دون الوصول إلى مستقرّ ثابت، أو حتى الاصطدام بنهاية معلومة. هنا تظل الدلالات معلّقة، تتأرجح بين دفّتي التأجيل والاختلاف (difference)، رهينة لعلل تواريها وانسحابها.
هذه النظرة التفكيكية للمعنى يعزّزها دريدا في كتابه (أحادية الآخر اللغوية)، الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم، (2008)، بترجمة مبدعة للناقد عمر مهيبل، عبر التركيز على مسألة اللغة ـ الأم، بأبعادها الدلالية والمجازية والفلسفية، مقدماً نصاً شيقاً يتناغم فيه التأمل الفلسفي بالبوح الذاتي، والسرد التاريخي بالتحليل الأدبي، حيث جاء في شكل منولوج صامت طويل، يخاطب فيه المفكر المغربي عبد الكريم الخطيبي، الغائب الحاضر في النص، مستنداً إلى كتاب هذا الأخير (حب مزدوج اللغة) الذي يناقش قضية ازدواجية اللغة، التي تتجسّد بلغة يمارسها الخطيبي، هي الفرنسية، ويدرك أنها ليست لغته، وأخرى يحبها، لكنه لا يمارسها، وهي العربية. وعبر هذه الازدواجية، يرى دريدا أن الخطيبي يركّز على استحالة العودة إلى أي من هاتين الضفّتين، ويقصد اللغة الأم واللغة الأجنبية، ما يجعل الأنا تتوجّه حائرةً إلى برزخ رمادي يسمّيه «منزلة بين المنزلتين»، لتمكث هناك، والمحصلة لغة هجينة في مستوى الكلمة وفي مستوى الكتابة.
ويناقش دريدا نقاط التقاطع والافتراق مع الخطيبي، فكلاهما من أصول مغاربية، جزائرية ومغربية، تجمعهما اللغة الفرنسية كأساس لهوية مفترضة، والتي تطرح الاستنتاج المؤرّق الذي يقدّمه دريدا في مقدمة كتابه بالقول: «نعم أنا لا أمتلك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي.» هنا يتأرجح دريدا بين استحالة التكلّم إلاّ بلغة واحدة، واستحالة أن نتكلم لغةً واحدة فقط، ما يفسح الطريق أمام وقوع المتكلّم ـ الضيف في مأزق تحديد معنى الانتماء والهوية والمواطنة والثقافة، خاصة أن دريدا يربط هذا الموضوع بمفهوم الشتات أو التشتيت، مستنجداً بنموذج الأنا المبعثر والمفكّك والتائه، قصد الوصول إلى «ما هو موحّد ومتناسق». إن اللغة الفرنسية التي يتحدّث بها دريدا، المولود في الجزائر، والمنتمي إلى الطائفة اليهودية، ليست لغته الأصلية (الأم)، لأن لغته الأصلية كان من المفترض أن تكون العربية أو العبرية، لكنه حُرِم من هذه وتلك، ليجد نفسه مرمياً في أحضان لغة هي ليست لغته، وهذا يعني أنه فُرِض عليه أن يقيم في «الترجمة» أبداً، التي لا لغة أصلية لها تنطلق منها، وهي تمثل حالة فريدة لمتكلم أحادي اللغة، يقيم في البرزخ الفاصل بين تقليدين لغويين مختلفين، لذلك، «فقد قُذف داخل الترجمة المطلقة، ترجمة لا قطب لها ولا مرجعية، لا لغة أصلية لها، بل لا لغة لها أصلاً كنقطة انطلاق أولانية». وعلى غرار الخطيبي، يشكّك دريدا بفكرة اللغة الأم، بل بمفهوم امتلاك اللغة، أي لغة أصلاً، إذ لا توجد ملكية طبيعية خاصة باللغة، من هنا فاللغة التي نتحدث بها، هي دوماً لغة الآخر، ما يجعلنا مسكونين بالحزن أو الكآبة على شيء لم ولن نتملّكه أبداً. بل إنها تمثل حالة انتظارٍ لآتٍ لا يأتي، ولوعدٍ غير قابل للتحقّق، يَعِدُ بالمستحيل دوماً، فتصبح الهوية أو الأنا بمثابة انتظار لا طائل منه، «للغة لا تحسنُ فعل أي شيء سوى أن تتركنا ننتظر، ننتظرها هي.» وسنكتشف أن ما اصطلحنا على تسميته لغتنا الأم ليس سوى لغة «صماء، بكماء، لا تقوى على تقديم أي جواب»، فهي اللغة التي تجيد ممارسة الصمت قبل الكلام، ونحن نتلقّى صمتها لأنها ببساطة لا تقول شيئاً. من هنا تلمّس دريدا لمشاعر القشعريرة التي تنتاب الخطيبي في كل مرة يستخدم فيها عبارة «لغتي الأم»، فهو يعود بذاكرته دائماً، بحسب تعبير دريدا، إلى لغة أصلية «قد فقدها، لكن من دون أن يفتقدها.» ويسوق دريدا مقطعاً طويلاً للخطيبي يعترف فيه هذا الأخير بفقدان لغته الأصلية، من دون أن يفقد حنينه الدائم إليها، ما جعله يتجرّع آلام ولادة ثانية في لغة جديدة، بمعزل عن كلّ أم، لتتحول مسيرته إلى إقامة مزمنة في منزلة بين المنزلتين، وليبقى «الآخر دائماً هو الآخر». فالكاتب العربي بلسان فرنسي محجوزٌ عليه، بحسب الخطيبي، «داخل عبارة متأرجحة بين الاغتراب واللااغتراب»، فهو لا يكتب لغته الخاصة، «لكنه ينقش اسمه المحوّل فقط، لأنه لا يستطيع تملّك أي شيء».
ويناقش دريدا العلاقة المعقدة التي تربطه مع موطنه الأصلي، الجزائر، التي كانت رازحة تحت الاحتلال الفرنسي، الذي فرض لغته وثقافته وقوانينه، على السكان الأصليين، حيث رسم حدوداً وتابوات يستحيل خرقها أو عبورها، لينتهي به المطاف غريباً، أجنبياً، لا يجرؤ على اقتحام الممنوع، مقيماً على تخوم اللغة العربية، دون العبور إلى مركزها المحرّم: «أما بالنسبة إلي فإنّ العربية كانت لغة الجار، جاري أنا، فقد كنت أقطن على تخوم حي عربي، على حدوده اللامرئية، والمتعذّر عبوره في الوقت ذاته.» لهذا السبب بالذات بدأت تتشكّل فكرة «الأحادية اللغوية»، وهي تعني، في ما تعنيه، أننا لا نتكلّم إلا لغة واحدة، ومع ذلك فنحن لا نملكها، ومرجعيتها دائماً هي الآخر، أو ما يسمّيه دريدا، «الآخر المحروس من قبل الآخر». فهذه اللغة مصدرها الآخر، ومتموضعة عنده، وعائدة إليه، في نهاية المطاف. من هنا إيقاعات الكآبة التي ترصّع اعترافات دريدا، الذي يختار هذه اللغة، التي ليست لغته، مسكناً افتراضياً، متمسّكاً بها كالغريق المتمسّك بقشّة، في رحلة البحث عن معنى الهوية ومعنى الذات.
وقد بدأت رحلة دريدا مع اللغة الفرنسية إبان خروجه الأول من الجزائر، وهو في سن التاسعة عشرة، متوجهاً إلى باريس، على متن سفينة تسمّى (مدينة الجزائر)، وقد استغرقت الرحلة الشاقة أكثر من عشرين ساعة. هذا العبور للمتوسط عنى رمزياً عبوراً موازياً داخل اللغة الفرنسية ذاتها، ومحاولة ردم الهوة بين نبرتين أو نظامين إيقاعيين، واحد يميّز فرنسيي الجزائر، وآخر يميّز فرنسيي فرنسا: «مع ذلك فقد راودني دائماً حلم أن لا أبقي في كتاباتي على أي أثر لفرنسيتي الجزائرية». ويعترف دريدا بوقوعه في عشق اللغة الفرنسية، ومحاولته إتقانها حدّ المغالاة والغلو، وتنقية صوته من نبرته القديمة، التي لم يكن يحبها، كما يعترف، فإذا به يقع فريسة للكلمات الفرنسية المشتهاة الرهيبة، العصية على الإمساك، حتى وهي تخترق ذاته، ليعثر على «جمل كان ينبغي احتيازها وترويضها في آن واحد، بل حتى مداهنتها إن تطلب الأمر ذلك، في عملية تحويل وتقطيع وصهر للمفردات الجديدة. ويعترف دريدا بهذا الشغف الذي يصل حدّ العصاب أحياناً، «فأنا أشعر بالضياع خارج اللغة الفرنسية». ويوغل في التنويع على ثيمة الإقامة أو السكن في لغة ليست لغته، ليسأل هل يمكن أن نتصور أن هذه اللغة الوحيدة التي يتكلّمها هذا الأحادي اللغة، اللغة التي نذر نفسه للتحدث بها، يمكن أن لا تكون لغته، مضيفاً: «كيف يمكن أن نصدّق أنها ما تزال بكماء بالنسبة إليه، مع أنه يسكنها». لكن كلمة «سكن» تضمر قيمة محيرة وملتبسة، كما يقول دريدا، فنحن لا نسكن ما تعوّدنا على تسميته سكناً، ولا سكن من دون استحضار قيم المنفى والحنين إلى زمن مضى. كأنّ سكن لغة جديدة لا بد من أن يوقظ تاريخاً طويلاً من التشتت والاغتراب والنفي، على الصعيدين الشخصي والتاريخي. وفي هذا الصدد يشير دريدا إلى أن الطائفة اليهودية في الجزائر، والتي ينتمي إليها، على نحو غامض وملتبس، تمّ تفككيها أو بعثرتها، ثلاث مرات على الأقل: أولاً عبر فصلها في البداية عن اللغة والثقافة العربية أو البربرية، وثانياً عبر فصلها عن اللغة وعن الثقافة الفرنسية، إن لم نقل الثقافة الأوروبية برمّتها، وثالثاً، عبر انقطاعها عن الذاكرة اليهودية ذاتها، ديناً وتاريخاً. هذا الانفصال الثلاثي دفع دريدا للتساؤل عن كيفية تأكيد الهوية الخاصة، وعن كيفية سرد الحكاية، ولمن. وكان لا بد من اختراع نموذج للذات، دون متلق محدّد، والسفر في أصقاع لغة الآخر، واختبار احتمالاتها الرهيبة.
ينجح دريدا في تسليط الضوء على خبايا تلك الرحلة الشاقة داخل اللغة الفرنسية، التي رافقته من المهد إلى اللّحد، ناسجاً في اعترافاته (confessions)، على منوال جان جاك روسو والقدّيس أوغسطين وسواهما، ومقدّماً منولوجاً فلسفياً فاتناً يقترب، في نبرته الوجدانية وفيوضاته الشعرية، من فنّ السيرة الذاتية، القائمة على عفوية تعبيرية يندر أن نجد لها مثيلاً في كتاباته الأخرى. هنا، لا يهجر دريدا منهجه التفكيكي الصعب، الشاقّ والمحير، الثري بتموّجاته وتعرّجاته ومفارقاته، لكنه يقترب أكثر من أسلوب الناقد الأدبي، الباحث عن إيقاعات لغة ليست لغته، وعن معنى لا يمكن القبض عليه، وعن ظلال هوية لا يمكن رسم معالمها أو الركون إليها.
محمد شوقي الزين
محمد شوقي الزين
Admin

المساهمات : 25
تاريخ التسجيل : 12/08/2009
الموقع : http://www.mohammed-zine.com

https://jacques-derrida.rigala.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى